خاص - شبكة قدس الإخبارية: تعلم "إسرائيل" وأذرعها العسكرية والاستخباراتية أن اغتيال السيد حسن نصر الله لن يؤثر على ميدان المعركة ومقاتلي الحزب، بل على العكس قد يشحنهم بروحية الانتقام، وأن اغتيال يحيى السنوار لن يمنع مقاتلي كتائب القسام من الاستمرار في استهداف جيش الاحتلال، ولكن في الحالتين، تعاملت "إسرائيل" مع الحدثين كضربات استراتيجية نتيجتها بالضرورة الانهيار شبه التام، فبعد اغتيال نصر الله بدأ جيش الاحتلال يتحدث عن انهيار في صفوف التشكيلات التابعة للحزب، بينما وزعت منشورات ودعوات على لسان بنيامين نتنياهو وجيشه لمقاتلي حماس بضرورة الاستسلام وتسليم الرهائن.
ورغم أن الميدان في جنوب لبنان وقطاع غزة شهد تصاعدا في العمل المقاوم، إلا أن جيش الاحتلال لا زال متمسكا بسردية "الانهيار" وبرواية "الضربات الاستراتيجية". لعلّ التفسير الأهم في هذا السياق، أن العقل الرسمي في "إسرائيل" يعي تماما أن إمكانية تحقيق "النصر الكامل" أمر مستحيل، فالتنظيمات العسكرية التي تحكمها الأيديولوجيا لا تتأثر استراتيجيا بغياب قادتها، وتصبح أكثر خطورة عندما تفقد مركزيتها في العمل، ولكن في المقابل لا زالت "إسرائيل" الرسمية بحاجة ملحة لمعالجة وإعادة تأهيل الوعي الجمعي الإسرائيلي بعد أن تعرّض للهزة الأخطر في تاريخه في 7 أكتوبر، وهذا يدفعها بالمخاطرة أحيانا في اختيار أهداف كبيرة لاستهدافها صدى في سياق الوعي.
مسؤول العلاقات العامة والإعلام في حزب الله محمد عفيف كان يعي ما يقول عندما صرّح بأن الإسرائيلي يعمل ضمن تكتيك "صوّر واهرب" وهو يدفع مقابله ثمنا باهظا. ومن الملاحظ أن كثافة الصور في بداية الاجتياح البري لجنوب لبنان قد بدأت تتراجع مع مرور الوقت، رغم أن المنطق يقول إنه مع تقدم العمل العسكري على الأرض تزداد كثافة الصور بحكم إنجازات الميدان المفترضة، إلا أن المستوى العسكري الإسرائيلي أصبح مقتنعا بأن الثمن الذي يُدفع مقابل الصور التي يُراد منها تأهيل الوعي الجمعي الإسرائيلي؛ باهظ، وهذه قضية يمكن أن ترتد عكسيا على هذا المستوى إذا ما كشف عنها في لجان تحقيق أو تحقيقات وتقارير صحفية.
في السياق العسكري، لم يتعامل حزب الله مع هذه الصور ومقاطع الفيديو بردات فعل ميدانية، فلم يغير أي من تكتيكات الاشتباك المعدة مسبقا من أجل منع الإسرائيلي من الحصول على هذه الصور - رغم أهميتها في معركة الوعي - ولم يخاطر بمقاتليه ومجموعاته العاملة في الجنوب من أجل الحصول على صور ومقاطع فيديو في إطار الردود في معركة الوعي، إلى الحد الذي اتهمه جمهوره وجمهور المقاومة بشكل عام بالضعف إعلاميا، وكان يعي أن الأهم هو أن يدفع الإسرائيلي ثمن هذه الصور وهو ما يدفعه للتراجع في جبهة معركة الوعي، ثم يبدو مكشوفا للحقائق الميدانية أمام جمهوره. وهذا بالفعل ما يحدث اليوم، لم يعدّ الجمهور الإسرائيلي يثق بتصريح قيادته بخصوص جبهة الشمال، فحين يتحدثون عن قرب عودة المستوطنين للشمال يستنفر المستوطنون احتجاجا ورفضا، لأنهم يدركون أن معطيات الميدان لا تضمن لهم عودة بلا مخاطر.
ومع تراجع جيش الاحتلال في محاور القتال، وخاصة في مدينة الخيام وبلدة عيتا الشعب الاستراتيجيتين، وفقدانه بعض مراكز تموضعه، وملاحقة حزب الله له بالصواريخ حتى في مواقع انتشاره الجديدة خلف الحدود، بالتزامن مع كثافة نارية تستهدف مواقع التحشدات والإمداد العسكري، بدأ الحديث إسرائيليا عن إمكانية الانسحاب من الجنوب مع الإبقاء على حرية العمل إن اقتضت الضرورة ذلك وهو مفهوم فضاض يُراد منه خداع العقل الجمعي الإسرائيلي، وينضوي في حقيقته على مراهنة إسرائيلية على "عقلانية" حزب الله في المستويين السياسي والعسكري، ولكن الإسرائيلي الذي أصبح تحكمه عقيدة "إذهب للحرب كلما كنت قادرا على ذلك" لن يمنع هذا الذهاب لدى عدوه خاصة بعد انسحابه وستكون الأمور أكثر تعقيدا على الحدود وما بعد الحدود، وهذا ما يجعله يشدد على ضرورة انتشار الجيش اللبناني أو أي جهة أخرى تضمن له "عدم الذهاب".
يمكن القول إن رصيد "إسرائيل" في الجنوب قد نفذ، فهو لم يستطع استفزاز حزب الله بحربه النفسية المركبة والتي شاركت فيها هيئات ووسائل إعلام ونشطاء بعضهم عرب وعلى رأسهم الإعلامين السعودي والإماراتي. والآن جاء دور البحث عن سيناريو التخلص من الكابوس (الميدان) الذي لم يحقق فيه أي إنجازات حقيقية سوى مصادرة بعض الأسلحة التي لدى حزب الله منها مخازن وأنفاق، فالسلاح لم ينفذ وكذلك حاملوه، بينما جيش الاحتلال يستنزف في جبهة لا يمكن له أن يحسم خطرها أو حتى أن يقلصه بنسبة كبيرة، وهذا يضعنا أمام سيناريو في المستقبل القريب خطوطه العريضة: الأمريكيون ضغطوا لوقف الحرب في الشمال.
ولذلك، على حزب الله أن يدرك أن أوراق القوة لديه في التفاوض كبيرة وكثيرة، لكن الإسرائيلي وبعض العرب والكتلة الغربية كاملة ستحاول تجريد حراكه العسكري الممتد منذ أكتوبر من "أخلاقيته" وأسبابه وجماهريته المتمثلة في ربط الجبهات (غزة ولبنان).